
سيدة قنديل.. أول امرأة سودانية تقف في قلب مدرج الطائرات
منوعات _ الهدهد نيوز _ في زمنٍ كانت فيه “البدلة الرسمية” حكرًا على الرجال، وقاعات المطارات ساحة لا تسمع فيها سوى أصوات ذكورية تدير الحركة وتضبط الإيقاع، خرجت امرأة سودانية من الظل إلى الضوء، لتكتب اسمها في سجل من سبقن عصرهن.
إنها سيدة ميرغني قنديل عثمان، ابنة ود مدني، التي لم تكتفِ بارتداء الطموح، بل جعلت من السماء سقفًا لأحلامها، وأصبحت أول امرأة سودانية – بل من الأوائل عربيًا – تؤدي مهام “ضابط مطار” ميدانيًا على أرض المدرج.
بدأت الحكاية عام 1977، عندما التحقت سيدة قنديل بالطيران المدني، في قسم الاستعلامات الجوية. لم تكن آنذاك سوى فتاة شابة تقف خلف مكتب صغير، تستقبل استفسارات الركاب وتبتسم للقلقين من تأخر الرحلات. لكنّ عينيها كانتا تلاحقان شيئًا أكبر… كانت تراقب الطائرات وهي تهبط وتقلع، وتلمح الضباط وهم يصدرون التعليمات بصرامة واحتراف، وتتساءل في داخلها: لماذا لا أكون واحدة منهم؟
لاحقًا، أضافت إلى مسيرتها الأكاديمية شهادة الحقوق من جامعة القاهرة – فرع الخرطوم، وبدأت تشق طريقها داخل أروقة إدارة العمليات الجوية، حتى نُقلت إلى قسم النقل الجوي كمفتش رسمي، تتعامل مع شركات الطيران وتراجع ملفات التشغيل، وتفهم خبايا الأنظمة واللوائح.
لكن القفزة الحقيقية حدثت عام 1995، حين قررت خوض مغامرة استثنائية. بتشجيع من زميلها محمد عثمان عوض، التحقت بدبلوم إدارة المطارات في المعهد القومي للطيران المدني. لم يكن سهلاً على امرأة حينها أن تحجز لنفسها مقعدًا في هذا المسار المهني، لكن سيدة فعلتها… ومضت إلى حيث لم تمضِ امرأة من قبل.
بعد التخرج، لم تكتفِ باللقب الأكاديمي، بل دخلت الميدان فعليًا. ارتدت زي “ضابط المطار”، ووقفت في ساحة مطار الخرطوم الدولي، تتابع حركة الطائرات، تنسق مع أبراج المراقبة، وتدير الزمن بدقة لا تحتمل الخطأ. هناك، وسط صخب المحركات، وأصوات الإقلاع والهبوط، كُتب فصل نادر من فصول تمكين المرأة السودانية.
ورغم تأهيل نساء أخريات لاحقًا، إلا أن أيًّا منهن لم يباشر العمل ميدانيًا كما فعلت سيدة. وهذا ما جعل تجربتها فريدة، واسمها محفورًا في الذاكرة المهنية للمطار، ومصدر إلهام للأجيال اللاحقة.
لكن مسيرتها لم تدم طويلًا في ذلك الموقع المتقدم، فقد قررت الاستقالة عام 1996 لأسباب أسرية، دون ضجيج أو احتفاء. انسحبت في هدوء، لكنها تركت الباب مواربًا خلفها، لكل من تملك الشجاعة لتكرار التجربة.
وعندما عادت إلى العمل مجددًا في العام 2021 لفترة قصيرة، كانت تلك العودة بمثابة لمسة أخيرة، توقيع أنيق على مسيرة امتدت لأكثر من أربعين عامًا.
اليوم، لا يُمكن الحديث عن المرأة السودانية في ميدان الطيران دون ذكر اسم سيدة ميرغني قنديل. فهي لم تكن مجرد “أول”، بل كانت “أكثر” من ذلك: كانت رائدة، ومغامرة، وصاحبة أثر حقيقي.
في عالمٍ لا تزال فيه بعض الفتيات يترددن في دخول مجالات الهندسة والميكانيكا والطيران، تظل قصة سيدة قنديل مثالاً حيًا على أن الإرادة أقوى من العرف، وأن الطموح لا يعترف بالنوع، بل بالقدرة والإصرار.
فيا لفتاةٍ حملت اسم “سيدة”، وقررت أن تكون كذلك فعلًا… سيدة في الحضور، وفي الأداء، وفي التاريخ.