
مطار الخرطوم… ازدهار الطيران السوداني
منوعات _ الهدهد نيوز _ في ستينيات القرن الماضي، لم يكن مطار الخرطوم مجرد منشأة خدمية تؤدي وظيفة النقل الجوي، بل كان يمثل واجهة حضارية متقدمة تعكس الطموحات الوطنية لدولة خرجت حديثًا من عهد الاستعمار، وبدأت ترسم ملامح نهضتها في مختلف المجالات. فقد شهد المطار في تلك الفترة طفرة حقيقية في بنيته التحتية، وحجم الحركة الجوية، وتوسع الربط الإقليمي والدولي، مما جعله أحد أكثر المطارات نشاطًا في منطقة القرن الإفريقي والعالم العربي.
افتُتح مطار الخرطوم الدولي رسميًا كمطار مدني في خمسينيات القرن العشرين، بعد أن كان يُستخدم لأغراض عسكرية في فترة الاحتلال البريطاني. ومع دخول الستينات، بدأت الحكومة السودانية تنفيذ خطط تطوير واسعة شملت مدرج الطائرات، وبرج المراقبة، وصالة المغادرة، فضلاً عن إدخال أنظمة حديثة في الاتصالات والملاحة الجوية كانت تُعد متقدمة بمقاييس تلك الحقبة.
وقد عرفت الستينات ذروة النشاط الجوي في السودان، مدعومة بانتعاش الخطوط الجوية السودانية (سودانير) التي كانت وقتها واحدة من أوائل شركات الطيران في إفريقيا، حيث تم تأسيسها عام 1946، وتوسعت بشكل ملحوظ في الستينات لتُسيّر رحلات منتظمة إلى عدد من العواصم الإفريقية والعربية، مثل القاهرة، نيروبي، أديس أبابا، جدة، بيروت، وطرابلس، بالإضافة إلى وجهات أوروبية مثل لندن وروما.
وكان المطار في تلك الفترة يحظى بطواقم تشغيلية مدربة بكفاءة عالية، أغلبهم من السودانيين الذين تلقوا تأهيلاً فنياً على مستوى عالٍ في بريطانيا ومصر. وتم إدخال نظام لتفتيش الأمتعة وتنظيم الرحلات كان يُعد متقدمًا مقارنة بعدد من المطارات الإفريقية المجاورة، وهو ما جعل مطار الخرطوم قبلة للطيران في منطقة شرق ووسط إفريقيا.
ووفق شهادات تاريخية، فقد تميزت صالة كبار الزوار في المطار بطابع رسمي راقٍ، إذ استقبلت خلال تلك الحقبة العديد من الشخصيات البارزة مثل الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي، والرئيس اليوغندي ميلتون أوبوتي، وآخرين من قادة حركة التحرر الإفريقية. كما شهد المطار لحظات مفصلية في التاريخ السياسي السوداني، من بينها استقبال الزعيم إسماعيل الأزهري بعد الاستقلال، وكذلك مغادرة واستقبال رؤساء الحكومات العسكرية والمدنية المتعاقبة.
وقد أُدرج مطار الخرطوم في الجداول الدولية للطيران آنذاك كمطار محوري (Hub) للطيران في شمال شرق إفريقيا، وكان يُصنف من بين المطارات المتوسطة الحجم لكن ذات الكفاءة العالية. كما جرى في الستينات التوقيع على اتفاقيات طيران مدني مع دول عدة، مما رفع عدد الرحلات الجوية الأسبوعية إلى أكثر من 80 رحلة.
لم يكن المطار مجرد مرفق للنقل فحسب، بل كان أيضًا موطنًا لمشاعر الفخر القومي، خاصة وأنه تم تشغيله بكفاءات وطنية عالية، في وقت لم تكن فيه أغلب الدول الإفريقية قد امتلكت مطارات مدنية مستقلة أو شركات طيران وطنية. وفي شهادات متفرقة لضباط طيران ومهندسين سابقين، فقد كان مطار الخرطوم يتمتع بأجواء مهنية صارمة، وانضباط كبير، ومراعاة دقيقة لمواعيد الإقلاع والهبوط، ما منح السودانيين آنذاك ثقة كبيرة في منظومتهم الجوية.
وقد ربط المطار في تلك الحقبة بين العاصمة الخرطوم ومناطق مختلفة داخل السودان عبر رحلات داخلية تُسيّرها سودانير، مثل رحلات بورتسودان، نيالا، الأبيض، ملكال، وود مدني. وكانت تلك الرحلات تلعب دورًا حيويًا في نقل الركاب والبضائع وربط أطراف البلاد الواسعة بمركزها الإداري والسياسي.
وبحلول نهاية الستينات، أصبح المطار يستقبل ما يزيد عن 200 ألف مسافر سنويًا، وهو رقم كبير بمقاييس تلك الفترة، ويعكس حجم النشاط الاقتصادي والسياسي والديبلوماسي الذي كان يشهده السودان. كما بدأت تظهر بجوار المطار مرافق خدمية مرتبطة بالطيران، مثل فنادق استقبال، ووكالات سفر، وورش صيانة، الأمر الذي ساهم في خلق حركة اقتصادية مصاحبة.
ومع أن مطار الخرطوم في الستينات لم يكن مزودًا بكل التقنيات الحديثة التي نشهدها اليوم، إلا أنه كان يُدار بعقلية احترافية نادرة، تعتمد على الانضباط والهيبة والبروتوكولات. كما أن الخطوط الجوية السودانية كانت تعتمد على طائرات من طراز DC-3 وViscount البريطانية، وهي من الطائرات التي احتفظت بسمعة طيبة في السلامة والاعتمادية.
وكان من اللافت أن السودان استطاع أن يحافظ على سيادته الجوية في وقت مبكر، عبر توطين صناعة الطيران وتدريب كوادره، وهي خطوة سبقت بها البلاد دولاً أخرى كانت تعتمد بالكامل على الخبراء الأجانب لتسيير مطاراتها.
اليوم، وبعد مرور عقود، يتطلع السودانيون إلى استعادة أمجاد ذلك العصر الذهبي للطيران والمطارات، عبر مشاريع تطوير مطار الخرطوم الجديد، وإعادة هيكلة سودانير، رغم ما تواجهه البلاد من تحديات كبيرة. لكن يبقى مطار الخرطوم في الستينات شاهدًا على لحظة تاريخية ناصعة، كان فيها السودان يقف في مقدمة ركب النهضة الإفريقية.
