
في التيه السوداني… “البحث عن مصطفى سعيد” رواية الأسئلة المؤجلة والهوية التائهة
مقالات _ الهدهد نيوز _ في عمله الروائي الجديد، “البحث عن مصطفى سعيد”، الصادر عن دار إبييدي بالقاهرة، يخوض الكاتب السوداني عماد البليك مغامرة أدبية جديدة تغوص في عمق التراجيديا السودانية، حيث تتقاطع الهزيمة الوطنية مع الانكسار الشخصي، وتتماهى خيبات الوطن مع وجع الفرد، وسط خيوط سردية تمتد من الخرطوم حتى لندن، ومن الماضي السياسي الملتبس إلى حاضر لا يزال مثقلاً بظلال الاستبداد والحروب.
هذه ليست محض رواية تُستلهم من رواية أخرى، بل عمل مستقل يقدم قراءة عميقة لانهيارات ما بعد الاستقلال، واستعادة رمزية لشخصية مصطفى سعيد – بطل رواية الطيب صالح الشهيرة “موسم الهجرة إلى الشمال” – ولكن بطريقة مغايرة، تطرح أسئلة الهوية والتاريخ والمستقبل من جديد، عبر شخصية جديدة هي “محمود سيد أحمد”.
الرواية تتتبع خطى الشاب السوداني محمود سيد أحمد، الذي يغادر وطنه هاربًا إلى الخليج، محملًا بمرارة وطن لم يعد يُطيق أبناءه، وطن ضيّقته الديكتاتوريات، وسرقه الفساد، وغاب فيه الأمل. يظن محمود أن الثورة السودانية التي أطاحت بحكم الإسلاميين ستكون بوابة العودة، إلا أن حلمه يتحطم سريعًا حين يكتشف أن الوجوه تغيّرت، لكن السلوك لم يتبدل، فالفوضى والانتهازية والإقصاء لا تزال تحكم المشهد.
تتعمق الرواية في تجربة محمود العائد، لا كبطل منتصر، بل كمنفي داخلي، يرى بلاده تُساق إلى هاوية جديدة، فيجد نفسه غريبًا وسط أهله، عالقًا بين الأمل المستحيل والواقع المرير.
يصف الناشر رحلة بطل الرواية بأنها تبدأ من الخرطوم إلى لندن، ولكن نقطة التحول الحاسمة تحدث عند مطار هيثرو، حين يُمنع محمود من السفر بينما تشتعل البلاد بحرب أهلية جديدة. تلك اللحظة لا تعيد فقط ترتيب مسار الشخصية، بل تكشف مدى تشابك القدر الفردي مع مصير الوطن، وتسلّط الضوء على هشاشة المواطن السوداني حين يُختصر وجوده في ورقة عبور، أو توقيع من ضابط جوازات.
يفتقد محمود بعدها البوصلة، ويغرق في لُجّة الخرطوم المنكوبة، حيث تذوب الحدود بين الأمل والخوف، وتبدأ سلسلة من الأحداث المؤلمة التي تنتهي بلجوئه إلى بريطانيا، ليس طلبًا لحياة مريحة، بل كمنفى قسري يُكمل فيه مشروع هروبه من بلد لا يمنح أبناءه فرصة العيش بكرامة.
مصطفى سعيد، الرمز الغائب الحاضر، لا يظهر كشخصية تقليدية في الرواية، بل كمرآة أيديولوجية وفكرية لماضي الرواية السودانية، وحاضرها المرتبك. لا يسعى البليك إلى محاكاة الطيب صالح، بل إلى محاورته عبر استحضار رموزه، وتفكيك مدلولاتها، في محاولة لإعادة قراءة التاريخ السوداني، لا باعتباره ماضياً رومانسياً، بل كحقل ألغام مستمر من الإخفاقات.
“البحث عن مصطفى سعيد” لا تحاول أن تقدم إجابات، بل تُجدد الأسئلة. لماذا أخفق السوداني في بناء وطنه؟ لماذا تُكرر الانقلابات وتستنسخ الديكتاتوريات؟ ولماذا يبدو الخلاص بعيدًا رغم كثرة التضحيات؟
من أهم ميزات الرواية قدرتها على بناء أجواء سردية مشبعة بالرمزية والألم، تقترب من الأسلوب الكثيف الذي يتطلب قارئًا متأملًا، لا مستهلكًا سريعًا. تتنقل الرواية بين الأمكنة بتقنية “الفلاش باك”، وتوظّف الأسلوب النفسي لتصوير الصراع الداخلي للشخصية، فتُظهر هشاشة الإنسان السوداني حين يُوضع أمام مشهد انهيار الحلم الجماعي.
في كل صفحة، يكاد الوطن يتحول إلى كابوس، لا بسبب احتلال خارجي، بل بفعل ذاتي، حيث يصبح الأعداء من داخل البيت، ويتحول الأمل إلى وهم.
عماد البليك كاتب وصحافي سوداني معروف، قدّم أعمالًا أدبية متعددة تتقاطع فيها السيرة الذاتية مع الشأن العام، وتمتاز رواياته بإيقاعها الخاص، وتحليلها العميق للواقع السياسي والاجتماعي السوداني، كما يمتلك خبرة طويلة في كتابة المقالات الثقافية والنقدية، ما ينعكس على لغته الروائية واهتمامه بالفكرة والرمز.
رواية “البحث عن مصطفى سعيد” ليست مجرد سرد لتجربة فردية، بل شهادة على عصر، وتأريخ لهزيمة أجيال بكاملها. إنها رواية تُقرأ وكأنها مرآة لما يحدث الآن في السودان: حروب، منفى، تيه سياسي، وأمل لا يزال يقاوم. رواية عن شعب يُحاول أن يكتب تاريخه، ولو كان على حواف المأساة.