إعلان
مقالات

الطاهر ساتي : هلوسات الصياد

مقالات _ الهدهد نيوز

إعلان

الطاهر ساتي : هلوسات الصياد

إعلان

مقالات _ الهدهد نيوز _ من صفات الحمقى، أعزكم الله، أنهم يفقدون السيطرة على ألسنتهم عند الغضب. يتحدثون بما في صدورهم دون غربلة، فتخرج الكلمات عارية من التهذيب، مباشرة من القلب إلى الأذن، دون أن تمر على بوابة العقل. ويُقال إن ما يُقال غضبًا هو أصدق القول، لأنه يكشف المستور، ويفضح النوايا المدفونة تحت ركام الشعارات.

 

إعلان

ويبدو أن الهالك كان غاضبًا في خطابه الأخير، لذلك أتحفنا بكل هذا الكلام اللا إرادي، الذي يستحق أن يُدوَّن في كتب التوثيق لا لبلاغته، بل لكونه شهادة من فمه على نفسه.

 

إعلان

قالها دون مواربة: (نحن لمن بدينا الحربة دي، لو بديناها بنظافة الكيزان والعفن المعانا، ما كان وصلنا الدرجة دي). ولنا أن نقف طويلاً عند عبارة “نحن لمن بدينا الحربة دي”.. فهل بعد هذا اعتراف؟ هل يجرؤ أحد نشطاء الحاضنة على أن يفتح فمه بعد الآن ويردّد أسطوانة الجيش هو من بدأ؟ لقد قالها هو بنفسه، بلا ضغط، بلا تعذيب، بلا مؤثرات خارجية.. فقط غضبه قاده للاعتراف بأن الدعم السريع هو من بدأ الحرب.

 

ولم يقف عند ذلك، بل حدّد الهدف أيضاً: “نظافة الكيزان والعفن المعاهم”. ومَن هم “العفن المعاهم”؟ لم يحدد، ولا ننتظر منه تحديدًا، فالرجل لا يجيد التفاصيل، ولكن الأهم من السؤال: هل أصابت رصاصات جنجويده الكيزان أو العفن؟ لا والله، بل أصابت نساء دارفور، أطفال الخرطوم، شيوخ كردفان، ومساكين الجزيرة. دمرت البيوت، واغتصبت الحُرمات، وسُلبت الممتلكات. لم يُصَب هدفٌ مما ذكر، بل وقعت الجريمة على من لا ذنب لهم سوى أنهم ينتمون لوطن اسمه السودان.

 

ثم ينطقها ثانية، وهذه المرة بما يشبه المانيفستو السياسي: “تاني تفاوض مافي”. أي أن الرجل، من حيث لا يدري، قطع الطريق على كل دعوات التهدئة، وأسقط ادعاءات أنصار السلام المزيفين ممن يروجون لعودة التفاوض. فهل سيسجلون هذه الجملة كنغمة رنين على هواتفهم، أم سيواصلون تسويق الأكاذيب؟

 

اللافت أن الهالك لم يوفر أحدًا من لسانه، لا مصر ولا إريتريا، الكل ناله نصيب من التهجم، وإن بدا التهجم غير نابع من موقف، بل أقرب لما يسميه أهلنا بـ”التحريش”. وهنا يحضرني قول حكيم البطانة الشيخ أب سن، الذي لُطم ذات يوم في مجلس عام، فاستدار نحو من لطمه وقال: (أمان الله، ما ح أسويلك حاجة، بس وريني المحرشك منو؟).

 

وأكاد أرى ذات الحيرة في خطاب حميدتي: لا يعلم من الذي ورّطه، لا في الهجوم على مصر، ولا في الصدام مع دول الجوار، ولا في المستنقع الكبير الذي غرق فيه. إن كان لا يعرف كيف قُتل حارسه الشخصي في تشاد، فكيف له أن يعرف خريطة التدخلات الأجنبية؟

 

أما أسوأ ما كشفه خطابه، فهو الانقسام العميق داخل ميليشياته. اعترف صراحة بأن جرحى متحرك الصياد لا يتلقون علاجًا ولا تعويضًا، إلا من كان من الماهرية. أما الآخرون، فعليهم أن يحتملوا جراحهم، وينتظروا نهاية الحرب علّه يبني لهم مستشفى – إن لم يموتوا! أي خيبة هذه؟ وعدهم بمدن علاجية بعد أن بتر أطرافهم، وأدار ظهره لهم بمجرد ما نزفوا.

 

ختامًا.. نعم، الهالك قدم خدمة عظيمة – دون قصد – حين اعترف. شهادة نادرة، تستحق أن تُعلَّق في أروقة العدالة، وتُذاع على مسامع المترددين. فالرجل – بلسانه – هو من بدأ الحرب، وهو من رفض التفاوض، وهو من خذل مقاتليه، وهو من خان السودان.

ولعل أكثر ما يقلق مضجعه الآن.. أن الحقيقة لم تعد حبيسة النخبة، بل أصبحت على لسانه، وصار الناس يعرفون: من الذي بدأ “الحربة دي”.

إعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إعلان
زر الذهاب إلى الأعلى