
معركة التعيين تفجر الانقسام السوداني
متابعات _ الهدهد نيوز _ في بلدٍ أرهقته الحرب وقسمته الجراح، ووسط ركام المدن وحرائق القرى وصمت الضحايا، يخرج الجدل من تحت الرماد كأنّه لهب لا يريد أن ينطفئ. لم تكد تُعلن الجهات المعنية عن تعيين وزير الوزراء الجديد، حتى تفجّرت موجة من الرفض الحاد والبيانات النارية، وكأنّ السودان بات في ترف يسمح له بصراع آخر فوق صراعاته. وكأنّ الزمن قد عاد إلى الوراء، حين كانت الخلافات السياسية تُخاض كأنها معارك وجود، لا تختلف كثيرًا عن تلك التي تُخاض في الميدان بالسلاح.
الرافضون لتعيين الوزير الجديد لم يخفوا امتعاضهم. عبّروا عنه بوضوح، وربما بشيء من الغضب. البعض رأى في التعيين انحيازًا لطرف دون آخر، والبعض الآخر شكك في أهلية الرجل للمرحلة، وهناك من اختار أن يصمت لكنه يلوّح في الخفاء بعدم الرضا. لم تكن مفاجأة أن يحدث ذلك، فالبلاد عرفت هذا السيناريو مرارًا، لكن المفاجأة الكبرى هي أننا، حتى في زمن الحرب، لم نتعلم بعد أن صراع الكراسي لم ولن ينقذ شعبًا تحاصره الدماء من كل اتجاه.
في لحظة مفصلية كهذه، يضيع فيها كل شيء، وتصبح الدولة على شفير الزوال، تبرز تساؤلات مرعبة: ما الذي نريده حقًا؟ هل نريد أن نحكم بلدًا لا وجود له؟ أم أن صراعات النخب أهم من معاناة ملايين السودانيين الذين لا يجدون قوت يومهم؟ الذين ينامون على أصوات المدافع ويستيقظون على أنباء النزوح والقتل؟
صوت العقل، الذي يُفترض أن يعلو في مثل هذه الأوقات، بات خافتًا. وكأننا نسينا أن الحرب التي تشق البلاد بطولها وعرضها، لا تميّز بين من وافق ومن رفض، ولا تنتظر حسم النقاشات في المكاتب المغلقة. الحرب تمضي، تحصد الأرواح، وتمزق النسيج، وتزيد من اتساع الهوة بين المواطن والدولة، بينما الساسة يتنازعون على من يقود من، ومن يجلس على ماذا.
لكن الحقيقة الأليمة التي لا يريد كثيرون الاعتراف بها، هي أن هذا الرفض في جوهره ليس إلا وجهًا آخر لأزمة أعمق. إنها أزمة الثقة. ثقة مفقودة بين الأطراف، بين المواطن والسلطة، بين القوى السياسية وبعضها، حتى بين أفراد الصف الواحد. وغياب الثقة يعني غياب الأمل، وهو ما يهدد بانهيار كامل لأي محاولة لبناء سودان جديد.
ورغم كل شيء، فإن من حق الجميع أن يرفضوا أو يعترضوا، فحرية الرأي لم تسقط بعد، لكن ما ليس من حق أحد هو أن يساهم في تفكيك ما تبقى من الوطن، حتى وإن كان ذلك بحجة “رفض التعيين”. ما نعيشه اليوم ليس معركة على شخص، بل على مصير وطن. وطن تآكل من الداخل، ولم يعد يحتمل مزيدًا من التشرذم.
لا يمكن أن نطلب من الخارج أن يحترم سيادتنا بينما نحن عاجزون عن احترام تماسكنا. لا يمكن أن نلوم الدول الأخرى على التدخل في شؤوننا ونحن نُفرّط بأنفسنا في وحدتنا. السودان اليوم لا يحتاج إلى وزير وزراء بقدر ما يحتاج إلى صوت جامع، إلى قيادة تتحمل المسؤولية وتدرك أن المرحلة أكبر من الأسماء، وأخطر من المناصب.
كل من اختار الرفض عليه أن يسأل نفسه: ما البديل؟ هل نترك البلاد في فراغ سياسي؟ هل نفتح الباب أمام الفوضى؟ أم ننتظر أن تسقط بقية المؤسسات لنعود من جديد إلى مربع اللادولة؟ هذا ليس وقت تسجيل المواقف، بل وقت البحث عن المشتركات، عن الحد الأدنى من التوافق الذي يمكن أن ينقذ ما يمكن إنقاذه.
دعونا نواجه الحقيقة كما هي، لا كما نتمناها. لا أحد يملك مفاتيح الخلاص وحده، ولا جهة تستطيع أن تدعي النقاء الكامل. الكل مسؤول، والكل يتحمل نصيبه من الأزمة، والكل مدعو لتحمّل تبعاتها. وبدلاً من صب الزيت على النار، لماذا لا نجرّب لأول مرة أن نقف جميعًا في خندق الوطن؟ لا خنادق الأحزاب، ولا الطوائف، ولا الولاءات الضيقة.
قد لا يكون الوزير الجديد مثالياً، وقد تكون عليه تحفظات، لكنه ليس العدو. العدو هو الانقسام، هو التشرذم، هو أن نُفرّط في آخر ما تبقى لنا من أمل في الاستقرار. وإن كنتم لا تثقون في الأشخاص، فثقوا في الضرورة، وثقوا أن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وأن الحرب لا تفرّق بين معارض وموالي.
نحتاج إلى خطاب جديد، خطاب لا يبحث عن الانتصار في المشهد السياسي، بل عن إنقاذ أرواح، عن إعادة بناء الدولة. خطاب يُدرك أن المعركة الآن ليست ضد وزير، بل ضد مشروع انهيار شامل، ضد مخطط يهدف لتمزيق السودان قطعةً قطعة، وهو ماضٍ في طريقه ما لم نوقفه بأنفسنا.
الرهان اليوم ليس على الأشخاص، بل على الوعي. والوعي يقتضي أن نُغلب مصلحة الوطن على مصلحة الأفراد. أن نقول كفى. كفى تنازعًا. كفى تلاعبًا بمصير شعب كامل. كفى استخدامًا للرفض كأداة سياسية. السودان أكبر من كل ذلك، وأهم من كل خلاف.
إذا لم نتوحد الآن، فمتى؟ إذا لم نضع اليد في اليد، فإلى أين المصير؟ كل من يرفض اليوم عليه أن يقدم البديل، لا أن يكتفي بالصراخ. وعليه أن يدرك أن التاريخ لا يرحم، وأن الأجيال القادمة ستسأل: ماذا فعلتم حين كانت البلاد تنهار؟ هل تمسكتم بخلافاتكم أم حاولتم إنقاذ الوطن؟
من هنا، من بين الركام، من بين آهات النازحين وبكاء الثكالى، نرفع الصوت عاليًا: دعوا الخلافات جانبًا، ولنتوحد. لسنا بحاجة إلى مزيد من التشظي، بل إلى صوت واحد، إلى وطن يجمعنا، إلى دولة لا نخجل من تسليمها لأبنائنا.
هذه ليست دعوة للقبول الأعمى، بل دعوة للعقل. دعوة للوطنية الحقيقية التي تُقدم المصلحة العامة على المكاسب الخاصة. فلتكن بداية جديدة، نطوي فيها صفحة الشك، ونفتح صفحة العمل من أجل السودان، لا من أجل الأشخاص.