اخبار اقتصادية

السودان ومصر شراكة استراتيجية تعيد رسم الاقتصاد الإقليمي

الهدهد نيوز

السودان ومصر شراكة استراتيجية تعيد رسم الاقتصاد الإقليمي

الهدهد نيوز _ في ظل الأزمات الإقليمية والتحديات الاقتصادية العالمية، تبرز العلاقات الاقتصادية بين السودان ومصر كنموذج حيوي لشراكة استراتيجية ذات منافع متبادلة تعزز الأمن الغذائي، وتدفع عجلة التنمية في وادي النيل، وتفتح آفاقًا أوسع للتكامل الإقليمي. ورغم التقلبات السياسية والضغوط الأمنية، لا تزال المصالح الاقتصادية تمثل أرضية صلبة للتعاون بين البلدين، حيث تُعدّ مصر من أهم شركاء السودان التجاريين، بينما ينظر السودانيون إلى مصر باعتبارها بوابتهم الأولى للعالم العربي والأسواق الأوروبية، والعكس صحيح.

 

واحدة من أبرز ملامح هذه الشراكة هو نهر النيل، الذي لا يمثل فقط شريان حياة، بل محورًا لفرص اقتصادية ضخمة، إذ يمتلك السودان مساحات واسعة من الأراضي الزراعية الخصبة القابلة للري الدائم، بينما تملك مصر خبرات كبيرة في إدارة المياه والزراعة تحت الضغط المائي. هذا التباين في الموارد والخبرات يفتح المجال لتكامل زراعي فعّال، حيث يمكن لمصر أن تستثمر في أراضٍ سودانية لإنتاج محاصيل استراتيجية مثل القمح والذرة والقطن، لتغطية الفجوة الغذائية المحلية وتوفير فائض للتصدير.

 

إعلان

 

على صعيد آخر، فإن الربط الكهربائي بين البلدين يمثل نموذجًا آخر لهذا التكامل، فمصر تمدّ السودان بالكهرباء عبر خط يربط الشبكة القومية المصرية بمدينة وادي حلفا شمال السودان، ومن شأن هذا الربط أن يتطور ليشمل مناطق أوسع، ما يساهم في استقرار إمدادات الطاقة في الولايات الشمالية والشرقية السودانية، ويقلل من الاعتماد على مصادر الطاقة غير المستدامة. كما يمثل الربط الكهربائي حجر أساس لمشروعات صناعية مشتركة في المستقبل، يمكن أن تساهم في خلق فرص عمل وتحقيق قيمة مضافة للموارد الخام السودانية.

 

 

في مجال النقل، تحققت مكاسب واقعية بعد افتتاح الطريق البري الذي يربط بين مدينة دنقلا السودانية وأسوان المصرية، وهو مشروع حيوي قلل من تكاليف النقل وسهل تدفق السلع بين البلدين. وقد زادت أهمية هذا الطريق بعد تعثر حركة التصدير عبر البحر الأحمر نتيجة للاضطرابات الإقليمية، حيث بات الطريق البري منفذًا أساسيًا لنقل البضائع من وإلى السودان. ويمثل تطوير هذا الطريق، بجانب معبر أرقين الحدودي، نقطة انطلاق نحو ربط ميناء بورتسودان بالموانئ المصرية عبر شبكة برية عابرة للصحراء، وهو ما سيمكن البلدين من تأسيس ممر تجاري يربط القرن الإفريقي بالسوق الأوروبية عبر قناة السويس.

 

 

أما في قطاع التجارة، فشهدت السنوات الأخيرة نموًا في التبادل التجاري بين الخرطوم والقاهرة، حيث تعتمد الأسواق السودانية بشكل كبير على الواردات المصرية من الأدوية، والمواد الغذائية، والمعدات الزراعية، في حين تصدّر السودان إلى مصر ماشية حية، وسمسم، وصمغ عربي، ومنتجات زراعية أخرى. ورغم ما يشوب هذا القطاع من بعض العراقيل الجمركية والفنية، فإن الإرادة السياسية لدى الطرفين تعمل على إزالة العوائق وتهيئة المناخ أمام الاستثمارات، لا سيما في ظل دخول عدد من الشركات المصرية الكبيرة إلى السوق السودانية في مجالات المقاولات، والإنشاءات، والأدوية، والطاقة الشمسية.

 

 

من جانب آخر، لا يمكن إغفال البُعد الاستراتيجي لمشروع التكامل الزراعي الذي تم توقيعه في منتصف الثمانينات بين البلدين، وإن تعثر تنفيذه خلال العقود الماضية، إلا أن التحديات الحالية مثل التغير المناخي وارتفاع تكلفة الغذاء العالمي أعادت إحياء فكرة الاستثمار المشترك في الزراعة. فالفرص لا تزال قائمة، لا سيما في مناطق مثل مشروع الجزيرة، وسهول القضارف، وسواحل البحر الأحمر، حيث توفر الأراضي والمياه والمناخ الملائم بيئة مثالية لتوسيع الرقعة الزراعية. وتملك مصر القدرة على ضخ التكنولوجيا الزراعية الحديثة، مما يجعل من الشراكة الزراعية أحد مفاتيح الأمن الغذائي للبلدين.

 

 

كما أن التكامل بين السودان ومصر لا يقتصر فقط على البنية التحتية والموارد الطبيعية، بل يمتد إلى الموارد البشرية والتعليم والتدريب الفني. فمصر تمثل وجهة رئيسية للطلاب السودانيين، وخاصة في التخصصات العلمية والطبية، فيما يمكن للسودان أن يوفر فرص عمل لآلاف من الأيدي العاملة المصرية، لا سيما في مشروعات البناء والتعدين. وهذا التبادل في الخبرات والمعارف يعزز من قوة السوق المشتركة، ويوفر بيئة خصبة للإبداع والابتكار في مجالات التكنولوجيا الزراعية والبرمجيات والاقتصاد الأخضر.

 

 

في إطار التعاون الإقليمي، يمكن للبلدين لعب دور محوري في مبادرة الربط القاري، سواء من خلال الممرات التجارية التي تربط شرق إفريقيا بشمالها، أو من خلال مشروعات البنية التحتية الكبرى مثل سكك الحديد والمناطق اللوجستية المشتركة. ومن شأن هذه المشروعات أن تعزز نفوذ البلدين الاقتصادي في إفريقيا، وتجعلهما من اللاعبين الرئيسيين في المعادلة الاقتصادية للقارة، خاصة في ظل سعي الاتحاد الإفريقي إلى تعزيز التجارة البينية وتخفيض الاعتماد على الأسواق الخارجية.

 

 

ولا يمكن تجاهل الدور المحتمل الذي يمكن أن يلعبه الذهب السوداني في ميزان العلاقات، إذ يُعد السودان من أكبر منتجي الذهب في إفريقيا، ويمكن أن يشكّل هذا المورد مادة للتعاون عبر الشراء المباشر أو التكرير والتصدير المشترك من خلال المصافي المصرية. كما أن مشاريع التعدين في شرق السودان ودارفور يمكن أن تستفيد من التمويل والخبرة المصرية، ما يعزز من فرص تشغيل الشباب وتوفير العملات الصعبة.

 

 

وفي النهاية، فإن العلاقة بين السودان ومصر ليست مجرد علاقات جوار جغرافي، بل هي علاقة قائمة على التاريخ والمصير المشترك. ومن هنا، فإن تنمية المنافع الاقتصادية بين البلدين تتطلب إرادة سياسية قوية، ورؤية استراتيجية طويلة الأمد تتجاوز الأزمات الطارئة، وتقوم على توسيع قاعدة المصالح، وتحقيق المنفعة المتبادلة، واحترام الخصوصيات المحلية. فالمستقبل الذي يُبنى على التعاون سيكون أكثر استقرارًا من الحاضر الذي يُرتهن بالتجاذبات.

 

السودان ومصر، إذا أحسنا استثمار فرصهما المشتركة، يمكنهما أن يصبحا حجر الأساس لنموذج اقتصادي إقليمي جديد، يجمع بين الموارد الواسعة، والطاقة البشرية، والموقع الجغرافي الفريد، ويؤسس لحزام اقتصادي جديد على ضفاف النيل، قادر على مواجهة التحديات، وتحقيق ازدهار حقيقي يعم شعبي وادي النيل

إعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى