
في بوركينا فاسو.. سقط القناع عن كلير!
منوعات _ الهدهد نيوز _ في عالم تتداخل فيه الشعارات البراقة مع النوايا الخفية، وتتشابك فيه مصالح الدول مع مآسي الشعوب، لا بد أن نفتح أعيننا جيداً على ما يجري من حولنا، ونعيد قراءة المشهد من زاوية مختلفة. ما حدث في بوركينا فاسو مؤخراً لم يكن مجرد واقعة أمنية أو سياسية، بل كان درساً بليغاً لكل الشعوب التي تطمح إلى التحرر من التبعية، وتبحث عن كرامتها في عالم يضج بالتدخلات الأجنبية تحت شعارات الإغاثة والمساعدة الإنسانية.
قصة “كلير ديبورا”، المرأة التي لبست ثوب الإنسانية وتسللت إلى قلوب البسطاء في بوركينا فاسو، ثم تبيّن لاحقاً أنها مجرد أداة تجسس لصالح دول غربية، ليست مجرد فضيحة عابرة في سجل العلاقات الدولية، بل هي جرس إنذار للشعوب الحرة، وعلى رأسها الشعب السوداني، الذي لطالما كان عرضة للتدخلات والمؤامرات، سواء عبر السلاح أو عبر العقول التي تأتينا ملفوفة بعبارات “التنمية” و”السلام” و”حقوق الإنسان”.
لقد ظنّ الناس أن كلير ملاك أُنزل من السماء، تبتسم للأطفال، وتلتقط الصور مع المرضى، وتزور القرى النائية حاملة معها وعود الأمل. لكن الحقيقة كانت أكثر قسوة مما تخيلوا. فحين اجتمعت الأدلة، وكُشف المستور، وظهر للعامة ما كانت تخفيه، لم يكن الأمر سهلاً. كيف لمن أحبّوها واحتضنوها وبكوا أمام كاميراتها، أن يصدقوا أنها كانت تزرع الفتنة وتجمع المعلومات، لا من أجلهم، بل ضدهم؟
هذه القصة ليست حكراً على بوركينا فاسو، ولا هي نهاية الحكاية. السؤال الذي يجب أن نطرحه بجرأة وصراحة: كم كلير تعمل في السودان؟ كم منظمة دخلت بلادنا منذ عقود تحت مسمى “الإغاثة” لكنها في الحقيقة تسعى لتفتيت نسيجنا الاجتماعي، أو تشويه قيمنا، أو خدمة أجندات خفية؟ كم من وجوه لطيفة تتحدث لغتنا وتجلس بيننا، وهي في الأصل تحمل عيوناً تراقب وتكتب وترفع التقارير إلى غرف مغلقة في عواصم بعيدة؟
ليس المقصود هنا التشكيك في كل عمل خيري، ولا في نوايا كل الأجانب، لكن الحذر لا يعني الجحود، والوعي لا يعني الانغلاق. فالأمم التي تنهض وتبني مجدها على أسس متينة، هي تلك التي لا تنخدع بالبريق، بل تبحث عن الحقيقة، وتميّز بين العدو والصديق، وتضع سيادتها فوق كل اعتبار.
الشعب السوداني اليوم يعيش واحدة من أعقد المراحل في تاريخه. حرب مفتوحة على كل الأصعدة: جيوش تقاتل، وبيوت تنهار، ونزوح يقطع أوصال العائلات، واقتصاد يتهاوى. وفي خضم هذا الانشغال العظيم، تتسلل أطراف خارجية كثيرة تحت عباءات مختلفة: إغاثة، إعلام، دعم نفسي، تعليم، تدريب… لكن من يراقب؟ ومن يفرز الغث من السمين؟ من يسأل نفسه: لماذا يهتم هؤلاء بنا الآن؟ وماذا يريدون فعلاً؟
إن أول ما يجب أن نفعله كأفراد وكجماعات هو أن نعيد بناء مناعتنا الثقافية. نحتاج إلى وعي جديد، لا يُبنى على العواطف ولا على الانبهار، بل على المعرفة الدقيقة بالتاريخ، وعلى دراية بمكر السياسة العالمية، وعلى فهم أن لا أحد يأتي ليخدمك بالمجان، خاصة في عالم تحكمه المصالح الصريحة لا القيم المجردة.
ولعل أعظم ما فعله شعب بوركينا فاسو في تلك الحادثة أنه وقف مع دولته. حين ظهرت الأدلة، لم يخرج أحد ليدافع عن “كلير” بدافع العاطفة أو الذكريات. لم يقل أحد: لكنها ساعدتني، أو زارت مدينتي، أو أطعمت أطفالي. فهموا أن من يطعِمك بيد، ويطعنك بالأخرى، لا يستحق الاحترام ولا الحماية. تعلموا أن من يخون ثقة الناس باسم الإنسانية، هو أخطر من عدوٍ يعلن عداءه صراحة.
ويا ليت هذا الوعي ينتقل إلى بلادنا. فكم من شخص بيننا تراه يدافع عن منظمة أجنبية لمجرد أنها وزعت كرتونة مواد غذائية، أو قدمت دورة تدريبية. وكم من مؤسسة تعلن عن نفسها أنها “غير ربحية” بينما تموَّل من جهات معلومة الأهداف. وكم من ناشط أو ناشطة أصبحوا جسراً لعبور التدخلات، ظناً منهم أنهم يفعلون خيراً، وهم في الحقيقة يُستخدمون دون أن يشعروا.
بلد مثل السودان، بتاريخه وثرواته وموقعه، لا بد أن يكون محط أنظار الجميع. ولن نكون في مأمن من الأطماع، ما لم نحصّن أنفسنا بالمعرفة، ونؤمن بسيادتنا، ونحسن اختيار شركائنا، ونقطع الطريق على كل “كلير” جديدة قبل أن تستقر بيننا.
علينا أن نثق في أنفسنا، وأن نعيد بناء مؤسساتنا على أسس وطنية خالصة. أن نربي أبناءنا على الشك الواعي، لا على الثقة العمياء. أن نغرس فيهم أن السودان لا يُباع، وأن لا أحد أحق ببلدنا منا، وأن من يحبنا حقاً، لن يأتينا خلسة ولا بكاميرا، بل سيأتي بوضوح، وبشراكة عادلة، وباحترام لكرامتنا.
ولنتذكر دائماً أن الشعوب لا تنهار حين تُحاصر أو تُحارب، بل تنهار حين تُخدع، حين تنبهر بمن لا يستحق، حين تمنح ثقتها لمن يُخفي خنجراً في ابتسامته.
ليكن ما حدث في بوركينا فاسو مرآة لنا. درساً نقرؤه بتجرد. لعلنا نوقظ وعينا، ونحصّن ما تبقى من وطننا ضد كل خديعة قادمة، فالتاريخ لا يرحم الغافلين.