
من الأنتنوف إلى المسيّرات.. رحلة الطيران الزراعي في السودان
متابعات _ الهدهد نيوز _ يحتل الطيران الزراعي مكانة محورية في تاريخ الطيران المدني السوداني، ليس فقط باعتباره وسيلة تقنية حديثة خدمت القطاع الزراعي، بل لأنه مثّل جسراً بين السماء والأرض، ووفر أدوات عملية لرفع الإنتاجية الزراعية وتعزيز الاقتصاد الوطني. فمنذ أكثر من تسعين عاماً بدأت على مستوى العالم فكرة استخدام الطائرات في الزراعة، وكان السودان من أوائل الدول التي طبّقت هذه التجربة في إفريقيا، ما رسخ مكانته كدولة رائدة في هذا المجال.
البداية الفعلية للطيران الزراعي في السودان تعود إلى العام 1948م عندما استعانت لجنة مشروع الجزيرة بطائرات مستأجرة من شركة فايسون البريطانية لمكافحة آفات القطن، المحصول النقدي الأول آنذاك. التجربة غطت خمسة آلاف فدان وأثبتت نجاحاً كبيراً، لتفتح الباب أمام التوسع في هذه التقنية. ففي عام 1949م قفزت المساحات المرشوشة إلى 18 ألف فدان، ثم 38 ألفاً في العام 1950م، حتى بلغت في منتصف الخمسينيات نحو 90 ألف فدان.
هذا النجاح المبكر مهد لظهور كيانات متخصصة، إذ دشنت شركة “كورب كلتشر” أعمالها عام 1956 داخل مشروع الجزيرة، لتصبح أول كيان مؤسسي للطيران الزراعي بالبلاد. لاحقاً، دخلت شركة “سيبا جياجي” المتخصصة في إنتاج المبيدات عام 1960م لتزاوج بين صناعة الكيماويات وتقديم خدمات الرش الجوي، ما عزز من قدرات المكافحة الجوية ووسع دائرة المنافسة.
وفي العام 1964م، دخلت طائرات “أنتنوف-2” السوفيتية ساحة الطيران الزراعي في السودان، وهي طائرات قوية وموثوقة عُرفت بقدرتها على العمل في بيئات صعبة وحمل كميات كبيرة من المبيدات. كما شهدت أوائل السبعينيات دخول شركات بلغارية وأوكرانية، ما أسهم في إدخال تقنيات جديدة ورفع مستوى التنافس، ورسخ مكانة السودان كأحد أبرز ميادين الطيران الزراعي في القارة الإفريقية.
الطبيعة السودانية الواسعة والمنبسطة شكلت عاملاً مساعداً لنجاح التجربة، إذ وفرت بيئة مثالية لعمليات الطيران الزراعي دون عوائق طبيعية تذكر. ومع دخول الشركات الوطنية لاحقاً، توسعت العمليات بشكل ملحوظ وانخفضت تكاليف التشغيل، لتتحول البلاد إلى ساحة رئيسية لهذه الصناعة الحيوية.
وقد بلغ النشاط ذروته في أوائل ستينيات القرن الماضي، وتحديداً في العام 1962م، حيث تمت تغطية أكثر من 825 ألف فدان في مشروع الجزيرة وحده، إضافة إلى 674 ألف فدان في المشاريع الخاصة، ليصل إجمالي المساحات المرشوشة بالطائرات إلى أكثر من مليون ونصف فدان، وهو رقم يعكس حجم الاعتماد الكبير على هذا القطاع ودوره في دعم الإنتاج الزراعي.
ومن المحطات البارزة أيضاً تأسيس معهد الطيران الزراعي بالمرخيات في أم درمان عام 1962م، بموجب اتفاق بين وزارة الزراعة وهيئة المعونة الأمريكية. كان المعهد الأول من نوعه في إفريقيا، واستهدف تخريج طيارين سودانيين وأفارقة متخصصين في مجال الطيران الزراعي. وقد تخرجت أول دفعة عام 1965م بعد برنامج تدريبي مكثف، وأسهم المعهد ليس فقط في تخريج الكوادر، بل كذلك في المشاركة في مكافحة الجراد الصحراوي والطيور وأعشاب النيل، إلى جانب أعمال مدنية أخرى مثل إطفاء الحرائق.
لقد مثّل الطيران الزراعي بالسودان تجربة رائدة عكست قدرة البلاد على الاستفادة من التكنولوجيا في خدمة التنمية. فقد أسهم في زيادة الإنتاجية وخفض الخسائر، وأظهر أن الطائرات يمكن أن تكون أدوات للنماء لا مجرد وسيلة للنقل. ويؤكد مختصون أن هذه التجربة وضعت السودان في مقدمة الدول الإفريقية التي تبنت الطيران الزراعي كخيار استراتيجي لدعم اقتصادها الوطني وتعزيز أمنها الغذائي.
ومع تطور التكنولوجيا الحديثة، يبرز اليوم دور الطائرات المسيّرة (الدرونز) كخيار واعد لمستقبل الطيران الزراعي في السودان. هذه الطائرات الصغيرة توفر حلولاً عملية وبتكلفة أقل، خاصة في المساحات المتوسطة والصغيرة التي لا تتناسب مع الطائرات التقليدية. كما يمكن استخدامها لمكافحة الجراد الصحراوي ورصد أسرابه في وقت مبكر، إضافة إلى مواجهة طيور الزرزور التي تلحق أضراراً كبيرة بالمحاصيل الموسمية.
يرى خبراء أن دخول تقنيات الدرونز إلى السودان يشكل امتداداً طبيعياً للإرث التاريخي للطيران الزراعي، ويفتح الباب أمام عصر جديد من التكامل بين الزراعة والابتكار التكنولوجي، بما يساهم في تعزيز الأمن الغذائي وتحديث القطاع الزراعي لمواجهة تحديات المستقبل.