إعلان
اخبارمقالات

امتحانات الشهادة السودانية: اختبار للمؤسسات

مقالات _ الهدهد نيوز

إعلان

امتحانات الشهادة السودانية: اختبار للمؤسسات

إعلان

بقلم: مهند عباس العالم

بين ركام الحرب وصوت الرصاص، كانت هناك قصة أخرى تُكتب على هامش المأساة، قصة عنوانها الإصرار، وموضوعها المؤسسية، وشخوصها تلاميذ وطالبات خرجوا في صمت مهيب من منازلهم ليجلسوا على مقاعد الامتحانات، يثبتون للعالم أن السودان لا يزال حيًّا، وأن المؤسسات، برغم كل شيء، باقية وقادرة على الصمود.

إعلان

 

 

إعلان

 

إن قيام امتحانات الشهادة السودانية في ظل هذه الظروف العصيبة لا يُعد مجرد إجراء إداري روتيني، بل هو فعل رمزي وسياسي ورسالة واضحة مفادها أن هناك مؤسسات لا تزال تعمل، وأن الدولة لم تنهَر تمامًا كما يروج البعض. فالجيش السوداني، الذي وفّر الحماية للجان الامتحانات، وأشرف على تأمين المراكز ونقل الامتحانات وحتى توزيع الجلوس، قدّم بذلك نموذجاً لما تعنيه “المؤسسية” في أوقات الأزمات.

هذه الخطوة تُعد في جوهرها إعلانًا عن بقاء الدولة، وتأكيدًا على أن السلطة التي تحرص على تعليم أبنائها رغم ويلات الحرب، هي سلطة تعي مسؤوليتها، وتدرك أن بناء الأوطان لا يكون بالسلاح وحده، بل بالعلم أولاً.

 

 

 

ولعلّ المقارنة هنا تفرض نفسها، بين مؤسسات الدولة الرسمية وعلى رأسها الجيش السوداني، وبين الكيانات المسلحة غير النظامية التي لا تحكمها مؤسسية ولا شرعية. فالدعم السريع، مثلاً، لم يكن في يوم من الأيام مؤسسة ذات طابع مدني أو دستوري، بل هو كيان ميليشياوي يفتقر إلى البنية الهيكلية التي تصنع مؤسسات حقيقية. وهذا ما يجعل الفرق بين الطرفين واضحاً لكل ذي عقل وبصيرة.

 

 

الإنسان العاقل الرشيد إذا ما نظر بمنظار العقل والمنطق، سيكتشف بسهولة أن المؤسسية والشرعية قد أصبحتا حكرًا على الجيش السوداني، لا من باب الانحياز، بل من باب الواقع. ففي كل مراحل الأزمة، كان الجيش يحرص على إبقاء ما يمكن إبقاؤه من مظاهر الدولة، بدءًا من المؤسسات الأمنية إلى الخدمة المدنية، ومرورًا بالتعليم والصحة. أما الطرف الآخر، فلم يكن سوى سبب إضافي في دمار البنية التحتية وتعطيل الحياة اليومية للمواطنين.

 

 

 

امتحانات الشهادة ليست اختبارًا للطلاب فحسب، بل كانت اختبارًا حقيقيًا للدولة السودانية ومؤسساتها، وعلى رأسها الجيش. وقد نجحت الدولة في هذا الاختبار بامتياز. لم يكن ذلك سهلاً، بل تم في ظل انقطاع الطرق، وتهديدات أمنية، ونزوح آلاف الأسر، وانعدام الخدمات الأساسية. ومع ذلك، مضى أبناء السودان، في بورتسودان ومدني والفاشر، إلى لجانهم يحملون أقلامهم بدلاً من البنادق، ويكتبون مستقبلهم على الورق بينما تكتب الميليشيات مستقبلها بالدم.

 

 

إن نجاح الامتحانات يذكّرنا بدور الجيش في حفظ كيان الدولة، لا كجهاز عسكري فحسب، بل كحاضنة وطنية تُبقي جذوة الحياة مشتعلة. ولا يمكن إنكار أن هذا الإنجاز ما كان ليتحقق لولا التخطيط والتنظيم والانضباط، وهي مفردات لا تُستخدم عادةً في وصف الحركات المسلحة غير النظامية، التي لا تعترف بمؤسسات ولا بقيم المواطنة.

وفي الوقت الذي يزداد فيه إيمان الناس بالجيش، تتآكل شرعية الجهات الخارجة عن القانون، وتتلاشى رواياتها أمام وقائع الواقع. فالشعب بات يميّز بوضوح بين من يهدم ومن يبني، بين من يُسلح الأطفال ومن يُجلسهم على مقاعد الامتحان، بين من يسرق ذهب البلاد ومن يحرس أوراق الامتحانات.

 

 

 

بل أكثر من ذلك، فإن نجاح الامتحانات رغم الحرب يمنح الجيش السوداني سلاحًا معنويًا لا يُستهان به، ويعزز من رصيده الشعبي والوطني. فكل طالب جلس إلى الامتحان هو في حد ذاته شهادة على أن الدولة لا تزال قائمة، وعلى أن هناك جيشًا يحميها ومؤسسات تعمل من أجلها.

لقد أثبتت هذه اللحظة الفارقة أن السودان ليس دولة منهارة كما تُصوّره بعض وسائل الإعلام، بل هو بلد يمر بأزمة، لكنه لا يزال يحتفظ بجذوة الحياة. ومتى ما عادت مؤسساته إلى كامل عافيتها، فسيكون قادرًا على النهوض مجددًا.

 

وفي الختام، ليس هناك اختبار أعظم من أن يجلس الأبناء في فصول الامتحان، بينما أصوات القذائف تتعالى من بعيد. تلك ليست مجرد شجاعة، بل هي رسالة إلى الداخل والخارج بأن السودان سيبقى. ومادام هناك جيش يحمي الأقلام أكثر من البنادق، ومؤسسات تصر على التعليم وسط الدمار، فإن الغد لا بد أن يكون أفضل.

إعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إعلان
زر الذهاب إلى الأعلى