
بورتسودان تشهد مفاجآت دبلوماسية أوروبية جديدة
متابعات _ الهدهد نيوز _ يشهد الموقف الأوروبي تجاه السودان عامة، والحكومة المؤقتة في بورتسودان على وجه الخصوص، تغيرات دبلوماسية متسارعة تكشف عن إعادة تقييم جادة للسياسات الأوروبية بعد أكثر من عام على اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. وجاء أبرز مؤشر على هذا التبدل في إعلان الاتحاد الأوروبي تعيين الدبلوماسي الألماني فولفرام فيتر سفيرًا جديدًا لدى السودان، خلفًا للسفير الأيرلندي آيدان أوهارا، الذي ينهي مهمته استعدادًا لتولّي منصب سفير بلاده في مصر، حيث تواصل بعثة الاتحاد الأوروبي الخاصة بالسودان العمل من مقرها المؤقت في القاهرة منذ تفجر النزاع منتصف أبريل 2023.
ويمثل تعيين فيتر خطوة بالغة الدلالة في توقيتها ومغزاها السياسي، فالرجل يُعد من أبرز المتخصصين الأوروبيين في الشؤون الإفريقية، وتقلّد سابقًا منصب رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي في بوركينا فاسو، كما عمل في دوائر صنع القرار ببروكسل، مما يمنحه مزيجًا من الخبرة الميدانية والفهم العميق لتعقيدات القارة. ويُتوقع أن تسهم هذه الخلفية في مقاربته للملف السوداني بواقعية أكثر وحنكة سياسية تتماشى مع المرحلة الراهنة.
وفي هذا السياق، تشير مصادر دبلوماسية إلى أن تعيين فيتر ليس خطوة معزولة، بل تأتي في إطار إعادة تموضع أوروبي تدريجي تجاه الحكومة السودانية المؤقتة، حيث بدأت بعض الدول الأوروبية، مثل إيطاليا وهولندا، مراجعة مواقفها السابقة من القطيعة الدبلوماسية مع الحكومة التي تشكلت بعد قرارات 25 أكتوبر 2021، في ظل متغيرات الواقع السياسي والميداني وتنامي الاحتياجات الإنسانية.
وتكشف المعطيات عن توجه جديد داخل الاتحاد الأوروبي قائم على مقاربة “براغماتية متوازنة” تراعي المصالح السياسية والاستراتيجية، دون الإخلال بمبادئ حقوق الإنسان والعمل الإنساني. وتهدف هذه السياسة إلى ضمان تدفق المساعدات إلى المدنيين المتضررين من النزاع، والعمل على تحفيز أي فرص متاحة لاستئناف عملية انتقالية سياسية تُنهي حالة الانقسام وتعيد الأمل بالتحول الديمقراطي.
ويضع الأوروبيون نصب أعينهم أيضًا تحديات التوازنات الإقليمية، إذ تسعى بعض الأطراف الغربية إلى تقويض أي تقارب سوداني مع موسكو أو طهران، خاصة بعد أنباء عن تعاون تقني وعسكري محتمل مع روسيا، ومحاولات إيران استعادة نفوذها القديم في شرق إفريقيا. ويمثل السودان في هذا السياق ساحة تنافس دبلوماسي حساسة، ما يفسر حرص بروكسل على متابعة دقيقة لما يجري داخله.
من جهة أخرى، يبرز على السطح اسم رئيس الوزراء السوداني الجديد كامل الطيب إدريس، الذي عيّنه رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان في مايو الماضي، ضمن مساعي إعادة هيكلة الجهاز التنفيذي. ويُنظر إلى هذا التعيين في الأوساط الأوروبية بكثير من الحذر، إذ لم يصدر بعد موقف موحد من الاتحاد الأوروبي بشأن الاعتراف الرسمي بالحكومة الجديدة، وهو ما يعكس الانقسام المستمر داخل أوروبا بشأن التعامل مع الواقع السياسي في السودان.
ولم يسجَّل حتى الآن سوى لقاء رسمي وحيد بين كامل إدريس ومسؤول غربي، تمثل في زيارة المبعوث السويسري الخاص إلى السودان، سيلفان أستييه، وهو ما يُفسَّر في بعض الأوساط بأنه مؤشر على تحفظ أوروبي تجاه التسرع في تبني علاقات رسمية كاملة مع الحكومة في بورتسودان، في انتظار ما ستؤول إليه الأوضاع الميدانية والسياسية في البلاد.
أما السفير المغادر آيدان أوهارا، فقد عُرف باتباع سياسة حيادية صارمة خلال فترة خدمته، حيث تعامل مع الجيش السوداني وقوات الدعم السريع كطرفين متكافئين، وهو نهج أثار جدلاً داخل الأوساط السودانية والأوروبية على حد سواء. ويرى محللون أن سياسة “الحياد الميداني” هذه ساهمت في إضعاف الدور الأوروبي في ملف الوساطة، وجعلت بروكسل أقل تأثيرًا في مسار السلام بالمقارنة مع الفاعلين الإقليميين مثل السعودية ومصر.
ومع تصاعد التحديات الإنسانية في السودان، تركز الجهود الأوروبية حاليًا على دعم عمليات الإغاثة من خلال مديرية الحماية المدنية والمساعدات الإنسانية (DG ECHO)، وهي الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي في مجالات الطوارئ. وتدفع بروكسل باتجاه تفعيل تنسيق ثلاثي بين الأمم المتحدة، ومفوضية العون الإنساني التابعة للحكومة السودانية، ووكالة الدعم السريع للإغاثة، لضمان وصول المساعدات إلى كافة المناطق المتضررة دون عوائق سياسية أو عسكرية.
غير أن هذا التنسيق يواجه صعوبات كبيرة بسبب غياب الثقة بين أطراف النزاع، وتضارب الاعتراف الدولي بشرعية الجهات المتحكمة على الأرض. ورغم الضبابية السياسية، لا تزال الأمم المتحدة تعتبر الفريق أول عبد الفتاح البرهان هو الرئيس الشرعي لجمهورية السودان، وهو موقف ينسجم مع رؤى بعض الدول الأوروبية، ويصطدم في الوقت ذاته بمواقف دول أخرى تتبنى نهج “الحياد المؤسساتي” في التعامل مع أطراف الأزمة.
ومع دخول السودان مرحلة جديدة من الانقسام الحاد بين شرق البلاد وغربها، ومحاولات كل طرف ترسيخ سيطرته، تبدو التحركات الأوروبية الجديدة محاولة لإعادة التموضع في المشهد المعقد، عبر أدوات دبلوماسية هادئة، ومقاربات إنسانية واقعية، واستكشاف فرص التأثير السياسي دون الانجرار إلى صدام مباشر أو انحياز لطرف دون آخر.
وفي ظل هذا الزخم، يُنتظر أن يُمثل السفير الجديد فولفرام فيتر واجهة أوروبية حيوية في السودان، إذ يعوّل عليه لإعادة بناء الجسور مع المؤسسات السودانية، وتفعيل دور الاتحاد الأوروبي في ملف السلام، بما يعيد التوازن إلى المشهد الدبلوماسي الذي باتت تهيمن عليه قوى إقليمية أكثر ديناميكية. ويرى مراقبون أن نجاحه في مهمته سيعتمد على مدى قدرته في التوفيق بين مقتضيات العمل الإنساني، ومتطلبات التوازن السياسي في بلد يقف على حافة التفكك.